الزيارة

لا تزال الأسطورة الحية لقرطاج و مؤسستها الأميرة الفينيقية "عليسة" تجذب زوار البلاد التونسية. و قد عرفت هذه "المدينة-الجمهورية", المكونة من مستكشفين و ملاحين وتجار, بمراكبها الشراعية الأرجوانية الجريئة و التي تعبر مرارا أكبر الممرات البحرية في اتجاه الشواطئ الشرقية و اليونان و بلاد ألغال العتيقة و "هسبانيا" التي تم غزوها. و تذكر كتب التاريخ ملحمة "هانون" المعجزة, رائد السواحل الإفريقية وكذلك إبحار "هيماكو" بحثا عن مناجم القصدير في الجزر البريطانية.

"قرطاج"!  تلك المدينة التي هزمت ثلاث مرات من قبل "روما", وقع إحيائها من طرف "يوليوس قيصر" و "أغسطس" لتصبح مقاطعة افريقية مزدهرة و "مطمور روما" بحق و لكن أيضا مصدرا مباركا لزيت زيتون نقي أنار مدن المتوسط طيلة قرون و كسب بالتالي ثروات تم تحويلها بحكمة إلى قنوات مائية و جسور و معابد و قصور مزدانة بالفسيفساء الأبدية.

طوال هذه القرون اللاتينية, شهدت المنطقة أول الرسالات السماوية القادمة من "فلسطين" و أول الهجرات اليهودية ثم عرفت تأثير آباء الكنيسة المسيحية, مما جعل من محافظة افريقية بؤرة متوقدة أسس بها القديس "سيبريان" (القبرصي) و القديس "أوغسطين" الكنيسة الكاثوليكية العالمية.

بعد هذه الثقافة الرومانية العظمى عرفت هذه الأرض, التي تمثل الكتاب الأبدي لتقلبات التاريخ, ذبول و انهيار مجدها لتخضع للهيمنة الغير متوقعة لقبائل "الواندال" الجرمانية الذين غزوا "قرطاج" و من بعدها "روما". و لم تنتهي هذه الحقبة من تاريخ تونس إلا مع عودة السلطة البيزنطية في "القسطنطينية" في القرن السادس عشر ميلادي ليبدأ عهد طويل من الخلافات البيزنطية.

في القرن السابع ميلادي قدم "فرسان الإسلام" من العالم العربي ليصنعوا حقبا كبرى من التاريخ و الثقافة تجسدت في تأسيس المدينة المقدسة "القيروان" التي حملت رسالة الإسلام حتى حدود "الأندلس".  

مثلت الهندسة المعمارية المهيبة لمجموعة المدن العربية المغربية و الجوامع و المدارس الكبرى مثل مدرسة "الزيتونة" الألفية بتونس, "القرويين" بفاس, "الكتبية" بمراكش, ثم "الجيرالدا" و "ألكازا" باشبيلية, "المزكيتا" بقرطبة و "الحمراء" بغرناطة, نقطة تتويج لأنصار روح الفن في التاريخ المشترك للضفتين الشمالية و الجنوبية للمتوسط. و قد خدمت سلسلة متواصلة من المكتبات العلمية التي تضم إبداعات المشرع "سحنون" و الطبيب القيرواني "ابن الجزار" و العالم القرطبي "ابن رشد" و من بعدهم العلامة التونسي "ابن خلدون"  هذا العمل الهائل و هو ما منح أوروبا الأدوات اللامعة التي مكنتها من تحقيق نهضتها في القرن الخامس عشر ميلادي.

تمكن زيارة "متحف باردو" الجديد الزوار من اكتشاف تحف فنية أساسية في تاريخ الإنسانية رغم بعد المسافات. فمن خلال الأقسام المحدثة يسافر الزائر عبر الزمن ليمتع ناظريه بالفسيفساء و النقائش و التماثيل و الرسوم المذهبة و اللوحات الخطية لحرفيين يجهل معظمهم. و هو ما يدهش الملايين من السياح المتوقعين لزيارة هذا الفضاء الشبيه بمتاهة آسرة. لكن ثراء مجموعات باردو يفرض اختيار قسم أو سلسلة محدودة من المعروضات أثناء الزيارة مما يجعلها جزئية و لكن ذلك يقود عادة إلى الرغبة في العودة و تعدد الزيارات من اجل اكتشافات غير متوقعة في كل مرة.